تخبرنا الفلسفة بأن الحرب ظاهرة مرتبطة بالوجود الإنساني، فمعظم الأفعال التي تحدد سلوكنا البشري لا تكاد تخلو من فرضيَّة حدوث الصراع الذي يُعد عاملاً أساسيّاً في نشوء الحرب. وما حتمية حدوث الحرب إلا نتيجة متوقعة لتفاعل مجموعةٍ من العوامل والمسوغات التي تحث العقل البشري على تفضيل خيار قرار الحرب على سائر البدائل الأخرى. وتزخر صفحات التاريخ بتوثيق دقيق للحروب، ولكنَّ الفلسفة تحاول - بأدواتها المعيارية - تقديم فهْم أوضح لظاهرة الحرب عن طريق فهْم محاولة إمكانيَّة تسويغها.
وتستوجب النزعة الاستكشافية للفلسفة طرح أسئلة معيارية عن الحرب، ولكنَّ طبيعة السؤال المعياري عنها تتعارض مع جوهر فكرة الحرب نفسها، فالمقترب المعياري يقوم على سؤال ما يجب أن يكون، والإجابة المتوقعة عن هذا السؤال هي: يجب على الإنسان ألا ينخرط في أي شكل من أشكال الحرب، بل - على العكس تماماً - يجب عليه أن يسعى إلى تحقيق المصلحة العامة المتمثلة في ازدهار المجتمع واستمرارية بقائه.
وبعبارة أخرى: إذا طُرح السؤال المعياري على النحو الآتي: هل يجب أن يستخدم الإنسان الحرب أداةً لتحقيق مصلحته؟ فالإجابة - على الأغلب - ستكون بالنفي، لأن الحرب تحمل في ثناياها الدمار لكل الأطراف المشتركة فيها.
إن السؤال الفلسفي الآخر المهم هنا هو: هل يمكننا تسويغ ظاهرة الحرب بصفتها عنصراً أساسيّاً في تطور المجتمعات البشرية؟ توجَد اجتهادات فلسفية وفكرية تناولت مسألة تسويغ فكرة الحرب، ومدى ضرورة وجودها في التاريخ البشري. ويعتقد الفيلسوف البريطاني توماس هوبز أن الحرب مرتبطة بجوهر الطبيعة البشرية، وهو الأمر الذي حذَّر منه، خوفاً ممَّا سمَّاه «حرب الجميع ضد الجميع»، الذي قد يحدُث لدوافع كثيرة منها شُحّ الموارد الطبيعية، وغياب وجود الدولة.
إن نظرية هوبز السياسية بشأن الحرب تؤكد أن هذه الظاهرة قد تتجاوز مقياس الاحتمالية في كثير من الأحيان، وصولاً إلى درجة حتمية حدوثها بين البشر، وهذا ما يَظهر لنا جليّاً عن طريق ملاحظة سلوك الدول فيما بينها، ما يجعل الحرب ظاهرةً معقدة وصعبة على الفهْم الإنساني.
وتوجَد محاولاتٌ كثيرة لفهم الحرب وتعريفها، ولا سيَّما أنها من المفاهيم الإشكاليَّة التي اختلف بشأنها المفكرون والفلاسفة، فبحسب المُنظّر العسكري كارل كلاوزفيتز، فإن الحرب هي «استمرار للسياسة ولكنْ بطُرقٍ أخرى»، وهذا في حد ذاته إشارةٌ إلى إخفاق المساعي السياسية السلمية الرامية إلى تغليب الأدوات والحلول الدبلوماسية الهادفة للوصول إلى اتفاق بين الأطراف المتصارعة.
ويقول توماس مور إن الحرب هي «غياب حالة السلم»، الأمر الذي ينبغي أن يعيه البشر جيداً، لأن السلم هو الحالة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان أن يبدأ مشواره الحضاري نحو الاستقرار السياسي والمجتمعي.
إن الإدراك البشري لخطورة الحرب يجب أن يقود إلى استيعاب جديد، مفادُه أن حالة السلم ليست جزءاً أساسيّاً من الحالة الطبيعية (حالة ما قبل وجود الدولة)، بل هي حالة مصطنعة لبقاء الإنسان مستقرّاً وآمناً، ولذلك يجب أن يسعى إلى إيجاد السلم مهما كلف الأمر، لكون السلام نتيجة عقلانية، والخيار الأمثل للإنسان.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك أموراً أخرى تجمع ما بين الفلسفة والحرب، منها الحقيقة، والنزعة المعيارية المفاهيمية، ولا تنفك الفلسفة تبحث في هذه الموضوعات بصفتها أساساً للمبحث الفلسفي للأشياء، فعلاقة الحقيقة مرتبطة ارتباطاً عضويّاً بماهية تعريف الأشياء، وتدارس الأبعاد المعيارية للظواهر الإنسانية المختلفة.
ولا شك في أن ظاهرة الحرب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطور التاريخ الإنساني، فهي تظهر في أبسط صورها ضمن بدايات التجمع البشري، وتزداد وضوحاً مع زيادة التعامل السياسي للأفراد في ما بينهم، وبين المجموعات البشرية الأخرى.
وتكمن الدوافع المحفزة للحرب في بدايات الصراع بمختلف أشكاله، وتتطور هذه النزعة المشجعة على استخدام العنف بتطور حدَّة درجة الصراع بين البشر، وبالنظر إلى الحرب من زاوية فلسفية سندرك الحقيقة الصعبة للحرب المتمثلة في التدمير والخراب، وهذا أبشع ما يمكن أن تبرزه الحرب في نفوس البشر.
إذنْ، لا تستطيع أطراف الحرب الخروج من ثنائيَّة الرابح والخاسر، ويؤكد هذا - بالضرورة - النزعة التدميرية للطرف الفائز فيها، فحصيلة الأرواح المحصودة في الحربين العالميتين الأولى والثانية وحدهما تصل إلى قرابة 77 مليون شخص، فضلاً عن الخسائر الكارثية الأخرى من الجرحى والمصابين.
وهذه الحقيقة الصادمة بشأن جوهر الحرب تؤكد صفة اللاإنسانية فيها، فهي تحمل تناقضاً عجيباً أيضاً، لكونها تسوغ تدمير الإنسان في سبيل حماية مصلحة إنسان آخر. وصحيحٌ أن الحرب في مجملها شرٌّ مدمر للمجتمعات البشرية، ولكنَّ الصراعات السياسية تسوغ لها في كثيرٍ من الأحيان أنها شرٌّ لا بد منه.

الدكتور/ علي حصين الأحبابي
مدير مركز جامعة الإمارات للسياسة العامة والقيادة، أستاذ العلوم السياسية المساعد، جامعة الإمارات العربية المتحدة.